بسم الله الرحمن الرحيم
كلمة في الاصطلاح والدلالة
أهمية إدراك الفوارق بين المعاني اللغوية والمعاني الاصطلاحية.
إن
الخلط في الدلالات وعدم معرفة الفوارق بين المعاني في اللغة وبينها في
الاصطلاح أمر في غاية الخطورة؛ لأنه يؤدي بأصحابه إلى أسوأ الأحكام، وأتعس
النتائج، وهذا ما سنلاحظ بعضه في الصفحات التالية، ومن ثم يلزم بين يدي
تعريفنا بالسنة معرفة الفوارق بين المعاني اللغوية والمعاني الاصطلاحية،
وعليه فأقول:
قال أبو هلال العسكري:" الفرق بين الاسم العرفي والاسم
الشرعي أن الاسم الشرعي ما نقل عن أصله في اللغة فسمي به فعل، أو حكم حدث
في الشرع، نحو الصلاة، والزكاة، والصوم، والكفر، والإيمان، والإسلام، وما
يقرب من ذلك، وكانت هذه أسماء تجري قبل الشرع على أشياء، ثم جرت في الشرع
على أشياء أخر، وكثر استعمالها حتى صارت حقيقة فيها، وصار استعمالها على
الأصل مجازاً، ألا ترى أن استعمال " الصلاة " اليوم في الدعاء مجاز، وكان
هو الأصل.
والاسم العرفي ما نقل عن بابه بعرف الاستعمال نحو قولنا: "
دابة "، وذلك أنه قد صار في العرف اسما لبعض ما يدب، وكان في الأصل اسما
لجميعه.
وعند الفقهاء أنه إذا ورد عن الله خطاب قد وقع في اللغة
لشيء، واستعمل في العرف لغيره، ووضع في الشرع لآخر، فالواجب حمله على ما
وضع في الشرع؛ لأن ما وضع له في اللغة قد انتقل عنه، وهو الأصل، فما استعمل
فيه بالعرف أولى بذلك، وإذا كان الخطاب في العرف لشيء، وفي اللغة بخلافه،
وجب حمله على العرف؛ لأنه أولى، كما أن اللفظ الشرعي يحمله على ما عدل عنه،
وإذا حصل الكلام مستعملاً في الشريعة أولى على ما ذكر قبل، وجميع أسماء
الشرع تحتاج إلى بيان، نحو قوله تعالى ((وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة))
[البقرة:43]
إذ قد عرف بدليل أنه أريد بها غير ما وضعت له في اللغة، وذلك على ضربين:
أحدهما: يراد به ما لم يوضع له ألبته نحو: الصلاة، والزكاة.
و
الثاني: يراد به ما وضع له في اللغة لكنه قد جعل اسما في الشرع لما يقع
منه على وجه مخصوص، أو يبلغ حداً مخصوصاً، فصار كأنه مستعمل في غير ما وضع
له، وذلك نحو: الصيام، والوضوء، وما شاكله.
وهذا كلام مهم، ولإيضاحه أكثر أقول:
الأسماء ثلاثة أنواع:
الأول: يعرف حده بالشرع مثل: الإيمان، الصلاة، الزكاة، الصوم، الحج.
الثاني: يعرف حده باللغة مثل: الشمس، القمر، الليل، النهار.
الثالث: يعرف حده بالعرف مثل: القبض.
والألفاظ
الشرعية - وإن كانت عربية في الأصل - إلا أنه لا بد من معرفة المراد بها
في الشرع؛ لأن الشرع قد نقل تلك الألفاظ عن مدلولاتها الأصلية إلى معان
بينها وبين المعنى الأصلي نوع اشتراك.
فالصلاة في أصل اللغة الدعاء، فجاء الشرع مخصصا الصلاة بأقوال، وأفعال، وهيئات معينة.
و
الزكاة في أصل اللغة هي النماء والزيادة، فجاء الشرع مخصصاً معناها بما
يدفع من حق معلوم لمستحقيه باعتبار ذلك الدفع طريقاً للنماء والزيادة.
والصوم في أصل اللغة مطلق الإمساك، فجاء الشرع مخصصاً معناه بالامتناع عن أشياء معينة في أوقات معينة.
و الحج في أصل اللغة القصد، فخص الشرع ذلك القصد بأنه القصد لبيت الله الحرام لأداء أعمال معينة.
فالشرع
إذاً لم ينقل تلك الألفاظ – وغيرها – عن معانيها اللغوية بالكلية، ولم يبق
عليها كما هي في أصل اللغة، بل خصت تخصيصاً شرعياً ببعض مواردها، كما أن
عرف الناس يخصص بعض الألفاظ ببعض مواردها.
وإذا أعرض المرء عن هذا
المنهج في تعامله مع المصطلحات الشرعية، ولم يع هذه الفروق فإنه يضل ضلالاً
كبيراً، لذا لزم علينا أن نبين وجه الخلاف بين معنى " السنة " في اللغة
وبين معناها في الاصطلاح، وهذا ما سنعرض له في الآتي.
السنة في اللغة
السنة
في اللغة: مشتقة من الفعل " سن " بفتح السين المهملة وتشديد النون، أو من "
سنن " وهذه المادة تفيد جريان الشيء واطراده في سهولة، فهي تفيد أن الشيء
تكرر حتى أصبح قاعدة.
ولها عدة معان:
1- السيرة المستمرة،
والطريقة المتبعة المعتادة، سواء أكانت حسنة أو سيئة. وهذا المعنى للسنة هو
الأصل والغالب، قال ابن الأثير: " قد تكرر في الحديث ذكر: " السنة " وما
تصرف منها، والأصل فيها الطريقة والسيرة.. "، وحسن الطريقة والسيرة أو
سوؤها إنما يأتي على طريق الوصف والإضافة.
فمن الوصف قوله- صلى الله
عليه وسلم -: " من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده
من غير أن ينقص من أجورهم من شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه
وزرها ووزر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء ".
ومن
الإضافة تأخذ كلمة " سنة " المدح أو الذم حسب المضاف إليه. ففي قوله - صلى
الله عليه وسلم -: ".... فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا
عليها بالنواجذ " تكون السنة حسنة ومحمودة.
وفي قوله - صلى الله عليه وسلم -: " أبغض الناس إلى الله ثلاثة: ملحد في الحرم، ومبتغ في الإسلام سنة الجاهلية..... "
وقوله
- صلى الله عليه وسلم -: " لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا شبرا، وذراعا
ذراعا، حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم، قلنا: يا رسول الله، اليهود
والنصارى؟ قال: فمن " تكون السنة هنا سيئة ومذمومة.
وأصلها اللغوي مأخوذ من قولك: سننت الماء إذا واليت صبه، وفي لسان العرب: سن عليه الماء: صبه، وقيل أرسله إرسالاً ليناً....
وسن
الماء على وجهه: أي: صبه عليه صبا سهلاً، قال الجوهري: سننت الماء على
وجهي، أي أرسلته إرسالاً من غير تفريق... وفي حديث بول الأعرابي في المسجد:
" فدعا بدلو من ماء فسنه عليه " أي: صبه، والسنن: الصب في سهولة... وفي
حديث عمرو بن العاص - رضي الله عنه - عند موته: " فسنوا علىّ التراب سنا "
أي: ضعوه وضعاً سهلاً.
فشبهت العرب الطريقة المتبعة، والسيرة
المستمرة بالشيء المصبوب، لتوالي أجزائه على نهج واحد، ومن هذا المعنى قول
خالد بن عتبة الهذلي:
فلا تجزعن من سيرة أنت سِرتَهَا * * * فأول راضٍ سنه من يسيرها
وبهذا
الإطلاق اللغوي جاءت كلمة السنة في القرآن الكريم، قال الله تعالى: " وما
منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة
الأولين " [الكهف /55]
وقال تعالى: " سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا " [الإسراء:77]
2-
السنة بمعنى المثال المتبع، والإمام المؤتم به , قال في اللسان:
سنَّ فلان طريقاً من الخير يسُنّه: إذا ابتدأ أمراً من البر لم يعرفه قومه،
فاستنوا به وسلكوه.
وقال الطبري: والسنة هي المثال المتبع،
والإمام المؤتم به، يقال منه: سَنّ فلان فينا سنة حسنة، وسن سنه سيئة: إذا
عمل عملاً اتبع عليه من خير وشر، ومنه قول لبيد بن ربيعة:
من معشر سنَّت لهم آباؤهم * * * ولكل قومٍ سُنَّةٌ وإمَامُها
وقول سليمان بن قَتَّة :
وإن الأُلى بالطفِّ من آل هاشم * * * تأسوا فسنوا للكرام تآسوا
وبهذا
الإطلاق اللغوي جاءت في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ما من نفس
تقتل ظلماً إلا كان على ابن آدم كفل من دمها ذلك أنه أول من سن القتل "،
يعني أن على قابيل قاتل هابيل نصيب من كل دم يراق؛ لأنه أول من ابتدأ
القتل، فقوله: " أول من سن القتل " فيه أن من سن شيئاًَ كتب له أو عليه،
وهو أصل في أن المعونة على ما لا يحل حرام.
وهكذا فإن العرب تطلق على كل من ابتدأ أمراً عمل به قوم من بعده، بأنه هو الذي سنه، ومن هذا المعنى قول نصيب:
كأني سننت الحب أول عاشق * * * من الناس إذا أحببت من بينهم وحدي
3- والسنة بمعنى الصقل والتزيين، يقال: سنَّ الشيء يَسُنُّهُ سناً، وسنَّنَه أي: صقله وزينه.
قال
في اللسان: والسنة: الوجه، لصقالته وملاسته، وقيل هو حُرُّ الوجه، وقيل
دائرته، وقيل: الصورة، وقيل الجبهة والجبينان، وكله من الصقالة والأسالة.
وبهذا المعنى وردت في أشعار العرب، قال الأعشى:
كريماً شمائله من بني *** معاوية الأكرمين السُّنن
حيث أراد بقوله: " الأكرمين السُّنن " الأكرمين الوجوه، فـ (السنن) الوجوه، و" السنن " جمع سنة.
وقال ذو الرمة:
تُريك سنة وجه غير مُقرفةٍ *** ملساء ليس بها خالٌ ولا ندبُ
حيث أراد بقوله " تريك سنة وجه " تريك دائرة وجهها.
وقال ثعلب:
بيضاء في المرآة سُنَّتها *** في البيت تحت مواضع اللمس
حيث أراد بقوله: " في المرآة سنتها ": في المرآة صورتها.
كما وردت في الحديث الشريف بهذا المعنى، ومنه حديث: " أنه - صلى الله عليه وسلم- حض على الصدقة، فقام رجل قبيح السنة ". أي: الصورة.
4-
والسنة بمعنى العناية بالشيء ورعايته. يقال: سن الإبل إذا أحسن رعايتها
والعناية بها، والفعل الذي داوم عليه النبي - صلى الله عليه وسلم- سمي سنة
بمعنى: أنه - صلى الله عليه وسلم - أحسن رعايته وإدامته.
5-
والسنة بمعنى البيان، يقال: سن الأمر، أي: بينه، وسن الله أحكامه للناس:
بينها، فسنة الله: أحكامه، وأمره، ونهيه، وسنها الله للناس: بينها، وفي
الحديث: " إني لأَنسى أو أُنسَّى لأسُنَّ ". أي: إنما أدفع إلى النسيان
لأسوق الناس بالهداية إلى طريق مستقيم، وأبين لهم ما يحتاجون أن يفعلوا إذا
عرض لهم النسيان.
الهوامش:
(1)الفروق ص 56
(2)انظر: " فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (7/298-302)، ومختصر الصواعق المرسلة (2/347).
(3)انظر: مقاييس اللغة (3/60)
(4)النهاية في غريب الحديث ص 449
(5) أخرجه مسلم، كتاب الزكاة، باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة، رقم (1017)
(6) أخرجه أبو داود، كتاب السنة، باب لزوم السنة (4607) و الترمذي كتاب
العلم، باب ما جاء في الأخذ بالسنة النبوية و اجتناب البدع رقم (2678)
وقال: حديث حسن صحيح.
(7) أخرجه البخاري، كتاب الديات، باب من طلب دم امرئ بغير حق، (6882)
(8) أخرجه البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب و السنة، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -" لتتبعن سنن من كان قبلكم " رقم (7320)
(9) أخرجه البخاري، كتاب الوضوء، باب ترك النبي - صلى الله عليه و سلم -
والناس الأعرابي حتى فرغ من بوله في المسجد، رقم (58،57)، ومسلم، كتاب
الطهارة، باب وجوب غسل البول وغيره من النجاسات إذا حصلت في المسجد رقم
(284).
(10)أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب كون الإسلام يهدم ما قبله رقم (121).
(11)لسان العرب 13/227، و انظر: القاموس المحيط 4/239، و المعجم الوسيط 1/455، 456
(12)لسان العرب 12/225.
(13)لسان العرب (13/225).
(14)يعنى أنك من جماعة " سنت لهم آباؤهم " علمتهم طريق كسب المعالي.
(15)الطف: موضع قرب الكوفة.
(16)تآسوا: من المواساة بمعنى المشاركة.
(17) تفسير الطبري 4/100.
(18) أخرجه البخاري كتاب الأنبياء، باب خلق آدم وذريته، رقم (3335)، ومسلم كتاب القسامة، باب بيان إثم من سن القتل رقم (1677).
(19) تكملة فتح الملهم (2/213).
(20) اللسان 13/224
(21) يقال سنن الطريق – بفتح السين و ضمها – فالأول مفرد والثاني جمع " سنة " وهي جادة الطريق والواضح فيها.
(22) انظر: لسان العرب 13/224، القاموس المحيط 4/239، المعجم الوسيط 1/456،455.
(23) أخرجه أحمد في المسند (4/288-296).
(24) انظر: لسان العرب (3/2121) تاج العروس (9/244،243).
(25) أخرجه مالك في الموطأ، كتاب السهو، باب العمل في السهو، رقم(2). قال
ابن عبد البر: لا أعلم هذا الحديث روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -
مسنداً ولا مقطوعاً من غير هذا الوجه، وهو أحد الأحاديث الأربعة التي في
الموطأ التي لا توجد في غيره مسندة ولا مرسلة، ومعناه صحيح في الأصول.
(26) انظر: لسان العرب (13/225)، القاموس المحيط (4/238).