أخذوه طفلا
فقيرا معدما يلبس الرث من الثياب ، وبالكاد يجد لقمة يومه ، ربوه في
ملاجئهم ، درسوه في مدارسهم ، ما إن لحظوا منه نباهة حتى جعلوه من أولويات
اهتماماتهم ، كان يتميز بذكاء حاد ونظرة ثاقبة في سن مبكرة من حياته ،
سرعان ما شق طريقه في التعليم ، حتى نال أكبر الشهادات بالطبع كان ذلك
مقابل دينه الذي يعرف انتماءه له ، لكنه تلفت يمنة ً ويسرة ً في وقت العوز
والحاجة ، فما وجد أحدا إلا المنفرين - أعني المنصرين أو من يسمون أنفسهم
بالمبشرين – أصبح قسيسا لامعا في بلده ، له لسان ساحر وأسلوب جذاب ومظهر
لامع ، وبريق عينيه يقود من رآه إلى مرآب ساحته، ومع الأسف كانت ساحته هي
التنصير ، وكم تنصر على يديه من مسلم .
وذات يوم إذ أراد الله
هدايته ، تأمل … وأخذ يتساءل .. أنا لم أترك ديني لقناعة في الديانة
النصرانية ، وإنما الجوع هو الذي قادني ، والحاجة هي التي دفعتني ، والعوز
هو الذي ساقني ، وعلى الرغم من رغد العيش الذي أنا فيه ، والرفاهية التي
أتمتع بها إلا أنني لم أجد الانشراح ولم أشعر وأنعم بالراحة والسعادة
والطمأنينة إذ ما فتئت أقلق من المصير بعد الموت ، ولم أرس على بر أمان أو
قاعدة صلبة تريح الضمير حول ما في الآخرة من مصير .
لماذا لا أتعرف
على الإسلام أكثر؟ لماذا لا أقرأ القرآن مباشرة ، بدلا من الاكتفاء
بمعلوماتي عن الاسلام من المصادر النصرانية التي ربما لم تعرض الاسلام
بصورته الحقيقة .
وهنا شرع يقرأ القرآن ويتأمل ويقارن ، فوجد فيه
الإنشراح والإطمئنان ، وانفرجت أساريره وعرف طريق الحق وسبيل النور " قد
جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام
ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم " . هنا اتخذ
قراره الحاسم وعزم على التصدي لكل عقبة تحول دون إسلامه ، تـُرى ماذا فعل؟
لقد عمل بالمثل القائل الباب الذي يأتيك منه الريح . افتحه وقف في وجهه.
فذهب إلى الكنيسة وقابل الرجل الأول فيها القسيس الأوروبي الكبير عندهم ،
وأخبره بقراره ، فظن أنه يمزح أو أنه هكذا أراد أن يقنع نفسه لكنه أكّد له
أنه جاد في رغبته هذه ، فجن جنون الرجل وأخذ يزبد ويرعد ويهدد . . . ثم لما
هدأ ، أخذ يذكره بما كان عليه وما صار إليه ، وما فيه الآن من نعمة ويسر ،
وحاول إغراءه بالمال وأنه سيزيد راتبه ويعطيه منحة حالا ويزيد من المنحة
السنوية ، ويزيد من صلاحياته ، و. . . و ... و.. لكن دون جدوى فجذوة
الإيمان قد تغلغلت في شغاف القلب واستقرت في سويداء الضمير ، كذلك بشاشة
الإيمان إذا خالطت القلب استقرت كما قال قيصر الروم لأبي سفيان فيما رواه
البخاري رحمه الله.
هنا قال له : إذن تـُرجع لنا كل ما أعطيناك
وتتجرد من كل ما تملك ، قال أما ما فات فليس لي سبيل إرجاعه ، وأما ما لدي
الآن فخذوه كله ، وكان تحت يديه أربع سيارات لخدمته ، وفيلا كبيرة وغيرها ،
فوقع تنازلا عن كل ما يملك ، وهو في هذا يعيد لنا أمجاد أبا يحيى صهيب
الرومي رضي الله عنه الذي قال له الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه :
ربح البيع أبا يحيى ، وذلك عندما استوقفه مشركو قريش في طريق هجرته وقالوا
له جئتنا معدما فقيرا ثم استغنيت فوالله لا ندعك حتى تخرج من مالك فاشترى
نفسه منهم بأن دلهم على ماله على أن يدعوه " إن الله اشترى من المؤمنين
أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة " .
اغتاظ القسيس الكبير وجرده حتى
من ملابسه وطرده من الكنيسة شر طردة ، وظن أنه سيكابد الفقر يومين ثم يعود
مستسمحا ، كيف لا يظن ذلك وهم المادّيّون حتى الثمالة. خرج أخونا من
الكنيسة قال : وأنا لا ألبس سوى ما يستر عورتي ولا أملك سوى هذا الدين
العظيم الإسلام ، وشعرت حينئذٍ أنني أسعد مخلوق على هذه البسيطة . سار
ماشيا باتجاه المسجد الكبير وسط البلد وفي الطريق أخذ الناس يمشون بجانبه
مستغربين ، ويقول بعضهم : لقد جن القسيس ، وهو لا يرد على أحد حتى وصل
المسجد فلما هم بالدخول حاولوا منعه متسائلين إلى أين؟ وإذا بالجواب
الصاعقة : جئت أُعلن إسلامي . عجباً ، القسيس الأشهر في البلاد الذي تنصر
على يديه المئات ، الذي يظهر في شاشة التلفاز مرتين أسبوعيا ، الذي يمثل
النصرانية في البلد ، الذي الذي الذي ….. يأتي اليوم ليُعلن إسلامه إنها
سعادةٌ لا توصف ، وفرحة لا تعبر عنها الكلمات ، ولا تقدر على تصويرها الجمل
والعبارات ، إنه أنسٌ غامر ، وإشراقة منيرة ، وكأنّ بالتاريخ يدوّي بصيحة
اللهم أعز الإسلام بأحد العمرين ، ومع فارق التشبيه إلا أنه رب إسلام شخص ٍ
واحدٍ يجر خلفه إسلام المئات وإنقاذ العشرات من براثن التيه والضلال وحمأة
الكفر والإنحلال .